المفكر المسلم الدكتور مراد هوفمان فى حوار الصعود
على المسلمين أن يخوضوا حرب «البناء الديمقراطى» والوحدة وحقوق الإنسان
لا يذهب إلى قداس الأحد سوى 9% من الشعب الألمانى... فهل قام الغرب بوداع الرب؟
ولد الدكتور مراد هوفمان عام 1931 فى ألمانيا، لأسرة كاثوليكية، وأتم دراساته الجامعية والعليا فى نيويورك وميونيخ وهارفارد على التوالى، وعمل بالخارجية الألمانية، وتقلد عدة مناصب رفيعة، منها خبير نووى فى حلف الأطلنطى، وأنهى خدمته سفيراً لألمانيا فى الجزائر ثم المغرب،... وعاش من عمره خمسين عاماِ كاثوليكياً و 27 عاماً مسلماً، وهو اليوم أحد أبرز رجالات البحث العلمى منذ أسلم عام 1980 ، ليخلف العلامة "محمد أسد" "ليوبولدفايس" النمساوى المسلم اليهودى الأصل (ت 1992) ، وليصبح رجلاً من رجالات الحقيقة الكبرى فى عالم اليوم من شرقه إلى غربه... التقيناه وحاورناه...
>> ما أبرز الدوافع التى كانت وراء دخولكم للإسلام؟
>> إنه من الصعب جداً أن يقدم الإنسان كشف حساب، لأفكاره... فى تطورها وتناميها... ولكن هدايتى للإسلام، كانت هدية من السماء، ووراءها ثلاثة أسباب أساسية:
أولها: إنسانى؛ حيث كنت أعمل بالجزائر بالخارجية الألمانية وقد عايشت حرب التحرير الجزائرية لمدة ثمانى سنوات، شاهدت خلالها آلاف القتلى فى الشوارع والمنازل، مماغرس أشد الآلام فى نفسى، حيث كنت ألاحظ مدى تحمل الجزائريين لآلامهم وقتلاهم، ومدى يقينهم الشديد - خاصة فى رمضان - من أنهم على طريق النصر والتحرر.. وذات ليلة تعرضت زوجتى للإجهاض، تحت تأثير الأحداث الجارية وقتها، ولم أستطع نقلها إلى عيادة الطبيب إلا فى الصباح، بسبب حظر التجول المفروض، وتغيير كل أسماء الشوارع بالحى الذى أقطن به، وأيقنت أن زوجتى ستموت، بسبب ندرة فصيلة دمها.. وأثناء توجهنا بسيارة الإسعاف، ومن شدة قلقى، أخبرتنى زوجتى بفصيلة دمها.. فسمع السائق الجزائرى المسلم، وعلى الفور، عرض علىّ التبرع بدمه لينقذ أجنبية ليست على دينه.. مما أثر جدا فى نفسى، ودفعنى إلى أن أقرأ كتاب هؤلاء المسلمين "القرآن" فى ترجمته الفرنسية.. فكنت كمن يقرأ فى صفحات الرحمة والمروءة والإنسانية النادرة.
والسبب الثانى: جمالى؛ ذلك لأننى مولع بالجمال منذ صباى.. حتى أننى عشت فى الفترة من (1954 - 1980) ناقداً متخصصاً فى الباليه، فى بعض صحف ألمانيا، بل وحاضرت لمادتى تاريخ وعلم الجمال الخاص بالباليه بمعهد كولونيا فى مابين عامى (1971 - 1973) ، ولم يكن بعض معارفى يعلمون أن القانون والدبلوماسية هما مهنتى الأساسية...
ذلك لأن مقاييس الجمال لدى كانت تتمثل فى هذا الجمال الحركى.. إلى أن تعمقت فى الجمال الساكن.. ووقفت أمام قصور "الحمراء" فى غرناطة و "المسجد الكبير" فى قرطبة.. فأيقنت أنها إفراز حضارة إنسانية راقية، وأن هذا الدين "الإسلام" له قوة روحية تتجلى فى كل مظاهره، فى حميمية شديدة، ينجذب لها القلب والروح والفكر والوجدان.
أما السبب الثالث: فهو فلسفى؛ وذلك بتوقفى طويلاً أمام الآية 38 من سورة النجم، والتى يقول فيها الله تعالى (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ذلك لأنها تصيب بصدمة شديدة كل من يتظاهر فى المسيحية بحب الأخر، ويخضع لسلطان القساوسة، فى نفوذهم اللاأخلاقى على الآخرين.. كما أنها تنسف مبدأ (وراثة الخطيئة) من أساسه، وتلغى كل واسطة بين العبد وربه، لأن ظاهرة حب الآخر فى المسيحية، تحمل معها كل نقائضها.. ولا تؤسس أبداً لمبدأ (الحرية الدينية)... هذه الأسباب الثلاثة.. إلى جانب دراستى فى أكثر من مائة مرجع لحياة النبى الصادق محمد صلى الله عليه وسلم ، وتتبعى لكل ما نادى به من تعاليم، ومقارنتى بين هذا وبين حياته وحياة أصحابه الكرام.. جعلتنى أدرك تماماً أنه ليس هناك مفر من أن أكون مسلماً بأعمق معنى لهذه الكلمة الشاهدة.. فالحمد لله رب العالمين.
شد الحبل حتى الموت
>> عملت لفترة مستشاراً لحلف شمال الأطلنطى، فى أصعب فترات نشاطه.. ما خلاصة تجربتكم هذه؟
>> لقد علمت الكثير جداً من سوء نية الغرب خاصة تجاه الإسلام والمسلمين، وهذا التوجه العدائى لدى الغرب، تمتد جذوره من الرومانية القديمة إلى الأوروبية الحديثة، فى استعلاء فلسفى وعرقى بغيض، وقد أبرزه المؤرخ (أرنولد توينبى) بوضوح فى محاضراته حول العالم والغرب، حيث قال: كان يجب على الغرب أن يبدأ الهجوم المعاكس على العالم الإسلامى بعد فشل الأتراك أمام أسوار فيينا عام 1683 م، ولكنه تأخر لمدة قرنين حتى استطاع تطويق العالم الإسلامى أولاً، ثم احتاج لمدة مائتى عام حتى تتخلص المخيلة الغربية من خوفها من شجاعة الأتراك المسلمين وبسالتهم، ثم بدأ منذ القرن التاسع عشر يخاطر فى شد الحبل... واليوم يحاول الغرب خنق العالم الإسلامى حتى الموت.
>> لقد ثارت حولكم ضجة واسعة، مازالت أصداؤها تتردد حتى الآن، فكيف كان وقع و واقع هذه الحملات عليكم فكرياً وعقائدياً؟
>> نعم، هناك جهات معلومة، تعمل بضراوة على محاولة زعزعتى عن مواقفي، أو هز عقيدتى الراسخة، أو حتى تخويفى، ولكن هيهات هيهات.
فأنا على يقين كامل.. وعقيدة راسخة.. أن الإسلام هو دين المستقبل لهذه البشرية التى استيقظت من سباتها المخيف، إلى الرعب الهستيرى الذى تحياه.. من ألفيتها الثالثة، وما ينتظرها فيه من أوهام.. لقد لاحظت البشرية وهى تنتقل من القرن الثامن عشر وهو عصر "التنوير" إلى القرن التاسع عشر وهو قرن "الإلحاد" إلى القرن العشرين وهو قرن "المذابح المليونية" كما أشار "بريجينيسكى".. لاحظت هذا.. بعيون الفنان، وذهن الناقد. وعقل المفكر وقلب المؤمن ورؤية السياسى..
وعشت فى ألمانيا المهزومة والمحطمة بعد الحرب العالمية الثانية.. وألمانيا القوية الموحدة الآن.. وعشت فى أمريكا وهى فى قمة زهوها وانتصارها بعد الحرب العالمية الثانية وكان ذلك عام 1950 ، حين ذهبت للدراسة وعمرى 19 سنة فى Union college فى نيويورك، ورأيت أمريكا المفزّعة بعد أحداث سبتمبر، ورأيت أمريكا التى يجرى بها أنهار "الكوكا كولا واللبن"!! وأمريكا التى تنفق ثلث ميزانيتها على مواجهة الإرهاب..
وأيقنت أن العالم لابد أن يسمع القرآن من جديد.. ولابد له أن يسمع محمداً صلى الله عليه وسلم من جديد وهذا هو السبيل الوحيد لشفاء الغرب من أمراضه وإنقاذه من نفسه.. أما بالنسبة للحملات التى واجهتها، فقد كان هذا أمراً متوقعاً، بل وأتوقع أكثر منه..
فالذين أثاروا ضجة عندما قلت إن "الإسلام هو البديل".. وتذرعوا بأننى أرى أن القرآن أهم عندى من القانون الألمانى، وأننى أؤمن بالكتاب الذى يدعو إلى "ضرب الزوجات" .. هؤلاء .. كان الرد عليهم بسيطاً لأنهم يهتمون بنقاط فرعية بعيداً عن القضية الأساسية.. وهى أن هذا الدين هو "الحق" وأن كتابه القرآن الكريم هو "الصدق" وأن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذى يحمل طريق الخلاص للبشرية المعذبة بل إن الغرب يغفل عن حقيقة مهمة وهى أن الإسلام يهدف إلى أن يعيد المسيحية لتقف على قدميها بدلا من الوقوف على رأسها.
عرائض الاتهام
>> ما أهم دعاوى الغرب، فى وجه المسلمين فى رأيك بعد رحلاتك العلمية والعملية التى خبرت بها الفكر الغربى بشمولية وعمق؟
> كل هذه الاتهامات والشبهات، تنتظمها ثلاث قوائم أساسية هى: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمرأة وللأسف الشديد، فهذه القوائم الثلاث، تحمل فى أحشائها نقائضها، فالديمقراطية وحقوق الإنسان، قد ارتبطت بمشاعر وخواطر محددة عند المسلمين.. لِمَا صبّه الغرب فيهما من انتقائية وبراجماتية مرتبطة بالقوى الاحتلالية التى هيمنت عليهم!!!! وكذلك فإن موضوع المرأة، حمل فى المنظور الغربى كل آفات وجراثيم الفناء للأسرة والفضيلة، والأخلاق.
وسقط مع الغرب فى هذه الهوّة.. كل من أسلموا إسلاماً ميلادياً، ولم ينفذوا إلى لب الأمور وحقائق الشرائع السماوية.
>> وماذا تفسرون هذا العداء الغربى للإسلام الذى أصبح يمثل "فوبيا" معاصرة للخوف من الإسلام؟
>> أوروبا منذ زمن بعيد، منطقة لا تعرف إلاّ انتشار دين واحد، على عكس المشهد الدينى المتنوع والمتسامح فى العالم الإسلامى، وبالتالى فليس لدى أوروبا خبرة ممارسة التنوع الدينى، وما يتطلبه الأمر من ضرورة تقبل الآخر والتعايش معه.. وعلى المسلمين أن يدركوا تماماً، أن الانتشار السريع للإسلام، الذى تشهده أوروبا اليوم والذى وصل إلى السويد وفنلندا والدانمارك، قد خلق صدمة شديدة وخوفاً من المستقبل عند أناس راسخى الجذور الثقافية، غير مؤهلين لتقبل ثقافات أخرى بسهولة.
فإن أوروبا، فى طريقها إلى وداع الدين، على حد تعبير فريد ريش نيتشه (1844 - 1900) فى مقاله الشهير "وداع الله" حيث يرى أن أعظم انجازات القرن العشرين - منذ كتابه الأول - أن الله قد مات، أى أن الإيمان بإله قد أصبح غير مقبول أو غير معقول.
وألمانيا على سبيل المثال لا يذهب إلى قداس الأحد بها سوى 9% من الشعب الألمانى.. الأمر الذى جعل مجلة عريقة مثل "دير شبيجل" تنشر فى عددها (15 يونيو 1992) مقالاً بعنوان: "وداع الرب"... وتقول بصريح العبارة إن ألمانيا تحولت إلى بلد كافر، بها بعض بقايا مسيحية شكلية.
إضافة إلى ميراث الحروب الصليبية الرهيبة.. إلى جانب أن أوروبا لم تشعر بخطر داهم من الخارج إلا من المسلمين فى أسبانيا غربا وأسطنبول شرقاً.. أضف إلى ذلك أن السلوكيات الخاطئة من بعض المسلمين فى بلادهم وفى الغرب.. كل ذلك .. يجعل "فوبيا" الخوف من الإسلام فى تزايد مستمر.. ومتصاعد.
إضافة أيضاً، إلى البعد "التأجيجى" الذى ينطلق من ميكانيزمات غربية خالصة.. حيث يعلن كثير من مفكرى الغرب أن "الآخر هو الجحيم" ، أو أن "الآخر هو النقيض" كما أعلن ذلك "إرنست رينان" وزير خارجية فرنسا يوم 23/2/1862 م فى (الكوليج دى فرانس) أن الإسلام هو النفى التام "النقيض" لأوروبا كل هذا جعل لدى الغرب، شعوراً متأزماً بالبحث عن هذا الآخر، وإدارة آليات الصراع معه.. الأمر الذى انتهى بمفكرين من أمثال "فوكوياما" و "هانتجتون" إلى تقسيم العالم إلى أبعاد دموية لا حضارية.
>> قطار الحضارة الغربية العملاق.. كيف تنظرون إلى مسيرته فى المستقبل القريب والبعيد؟
>> الغرب سيقع حتماً، لأن قطاره بدأ السير بقوة خارج القضبان، ولكن الغرب لن يقع بسرعة، بل سيستفيد لفترة من الزمن من رصيد القيم المتوارثة عنده، ومن بعض السلوكيات الصحيحة التى تمرس بها الإنسان الغربى... وبانتهاء هذا الرصيد التاريخى، سينتهى المبرر الحضارى لوجود الغرب كقوة حضارية.
المؤهلات المطلوبة
>> وما الذى يجب أن يتغير لدى المسلمين، ليتأهلوا لهذا الدور الحضارى المرتقب؟
>> يجب أولا أن يتم تغيير الاعتقاد الخاطئ أن الإسلام ديانة عربية، حيث أن المشهد الغربى لا يعرف إلا انتشار دين واحد، بعكس المشهد الإسلامى المستوعب المتنوع وبالتالى فعلى المسلمين تقليل حيز الاختلافات، والتفرقة بين الجوهرى والفرعى أو بين المعتقد والموروث... وأن يخوضوا معركة الاندماج الحضارى بسلاسة وذكاء، وهم مزودون بأرسخ وأعمق الجذور العقائدية والثقافية.
وعليهم ثانياً: مراجعة التراث الإسلامى العريض، لتنقية السنة النبوية المشرفة مما لحق بها، أو شابها... ثم العمل الدائب من خلال القمم الفكرية على تجديد الفقه والخطاب الدينى، وإبراز ديناميكية القوانين والشريعة الإسلامية فالمسلمون شركاء للغرب فى حضارته، وعطاؤهم يفوق كثيرا، عطاء اليهود فى الحضارة الغربية، ويوازى العطاء الإغريقى بل يفوقه.
وعلى المسلمين أن يخوضوا عدة حروب داخلية وخارجية أهمها على المستوى الداخلى حرب البناء الديمقراطى وحقوق الإنسان، والوحدة، وعلى المستوى الخارجى حرب تصحيح الأفكار والأحكام المسبقة عن الإسلام والمسلمين ولكن ربما يحفل الطريق إلى الدوران الحضارى ب (بوسنة) و (شيشان) و (كوسوفا) أخرى بالنسبة للغرب.. بل ربما يتم التجاوز داخل الشرق ذاته فتتكرر "المأساة" العراقية فى عدة أقطار أخرى حيث لا يزال الغرب يعانى من "كتاب الأتراك المقدس" ولا تزال الحروب الصليبية مستمرة حتى يومنا هذا وعلينا أن نجتهد بقوة، فى شرح كل طرف للآخر، وأن نقيم جسوراً من التفاهم بين الشرق والغرب، وأن نسهم بإخلاص فى إزالة مشاعر العداء التى يكنها كل طرف للطرف الآخر خاصة على مستوى الشعوب والمجتمعات.
من مجلة التبيان
د. محمود خليل
مدير إدارة الأسرة والمجتمع الإسلامى - إذاعة القرآن الكريم